باخجه شيّه
تتميّز منطقة عفرين عن غيرها من مناطق ريف حلب بطبيعة جمالها السّحري الخلاّب وذلك من حيث تنّوع التضاريس والطقس المعتدل ( لقربها من البحر الأبيض المتوسط ) وكذلك وفرة مصادر المياه والتربة الخصبة وهوائها العليل وغيرها من العوامل التي جعلتها حتى الأمس القريب الرئة والقبلة السياحية لأبناء هذه المحافظة ، علاوةً على ذلك فإنّه لكل رقعةٍ من هذه المنطقة خصوصيةٌ تمّيزها عن غيرها من مناطق عفرين الأخرى لتّشكل جميعها لوحةً فسيفسائية إلهية يعجز أي فنانٍ مجرّد تخّيلها لا رسمها .
كما هو حال بلدتنا الحبيبة شية التي تميّزت منذ عهودٍ طويلة عن غيرها بالكثير من الاوابد والعناصر التاريخية التي اكسبتها قيمةً وشهرةً كبيرة في وسطها ومحيطها الجغرافي والاجتماعي ، لا سيّما أهمّها ذكراً لا حصراً تلك البساتين التي سوف تكون محور بحثنا اليوم هذا ، والتي كلُّ من عاصرها أو عمل فيها يدرك وهو على يقينٍ بأنّ الأرقام لا قيمة لها في عالم عجائب الدّنيا السبع .
تقع هذه البساتين غرب مسقّفات القرية والتي تفصلها عن المباني والتجمّعات السكنية والسّهل الزراعي الفسيح طريق عام ( جنديرس . شيخ الحديد . قرمتّلق ) ، وهي على شكل مصاطب ذات طبيعةٍ انحدارية تميل غرباً ولأغلبها جدرانٌ حجريةٌ عشوائيةُ البناء من الطرف الغربيّ منعاً لانهيار التربة ، تتخلّلها عدّةُ طرقٍ ترابية تتفرّعُ عنها أزقّةٌ فرعية تسمح بالوصول إلى جميع هذه البساتين .
تبلغ مساحة هذه المصاطب التاريخية والمخصّصة سطوحها لهذه البساتين بحدود /30/ هكتار ، إلا أن هذه المساحة مع مرور الزمن قد تقلّصت كثيراً لأنّ البعض منها من طرف الجنوب لم تعد تستثمر كبساتين ومنها مثلاً بستان المرحوم بكر تيتي الذي شّيد فيه معصرة المرحوم حسين كوجر وكذلك بساتين آل بكر آغا والتي تحوّلت فيما بعد إلى حقول زيتونٍ وابنيةٍ ، إضافةً إلى بستان المرحوم حكمت إبراهيم ( توبك ) الذي تبرّع بجزءٍ منه لصالح بناء المستوصف .
وفي السنوات الأخيرة تمّ إشادة عدةُ مبانٍ سكنية ومحلاتٍ تجارية ضمن مساحة هذه البساتين خاصةً بعد جفاف مياه البئر الروماني لسنواتٍ طويلة والذي أدّى بدوره إلى إهمال هذه البساتين نوعاً ما .
أمّا عدد هذه البساتين فكانت بحدود /37/ بستاناً إلاّ أنّه مع مرور الزمن ونتيجةً لعمليات البيع الجزئية وكذلك التقسيم الوراثي وفق الحصص تجاوز العدد هذا الرقم بكثير حيث بات من الصّعب إحصاء هذه البساتين حالياً .
( كما هو موضّح في المخطّط الكروكي المرفق )
كانت الخضروات الموسمية بجميع أنواعها تشّكل المنتوج الرئيسّي لهذه البساتين والتي كانت تغطّي معظم احتياجات نواحي منطقة عفرين وذلك من خلال بائعيها الجوّالين ، حيث كان معظم أهالي القرى بمجرّد سماع صوت بائع الخضرة ونداءاته المتكرّرة والمار عبر الأزّقة والشوارع والذين كانوا هم بدورهم يتابعون سيره مشياً على الأقدام وخاصةً النساء والأولاد منهم والذين كانوا بعد ملاحقاتٍ ماراثونية يجتمعون أخيراً حول ( العتار ) في إحدى الساحات وهم يعلمون بأن هذه الخضروات النضرة من خيرات بساتين شية .
أمّا الأضلاع الخارجية لهذه البساتين فكانت تحدّد بصفٍ من الأشجار المثّمرة وبعض الفاكهة كالتين والرمّان والجوز والمشمش والتوت والحور والتوت البريّ * العليّق * والتي كانت تشّكل جميعها سياجاً طبيعياً حامياً لهذه البساتين مع بعض الأسلاك الشائّكة أحياناً ، علاوةً على ذلك كانت تشّكل هذه الأشجار مظلةً وغطاءً نباتياً يحمينا من حرّ الصيف وقيظهِ خاصةً عندما كنّا نجول بين طرقات هذه البساتين وازقّتها الضّيقة ونحن نسمع مع صوت عصافير الدوري والكناري خرير مياه البئر الروماني الجاري على جنبات هذه الطرق والازّقة عبر سواقيَ مكشوفةٍ تحتضن هذه الأشجار صفاً مستقيماً والتي تزّين جذوعها عناقيدَ فطرٍ لا مثيلَ لطعمها وهي تختبئ خجلاً بين هذه الجذوع والنباتات وكأنّها بطاقة يا نصيبٍ لكلّ من يكتشف مكمنها .
إلاّ أنّ أجمل اللحظات وأكثرها سعادةً كانت عندما كنّا نتابع سيرنا وإذ بثمرةٍ ناضجةٍ وهي تسقط غفلةً على رؤوسنا ، هذه الصّورة التي كانت توازيها أحياناً لحظات رعبٍ وخوفٍ ونحن نسمع فحيح أفعى وهي تجتاز الطريق مع حركات لسانٍ بهلوانية كأنّها تريد أن تخبرنا بأنّها سيّد الموقف هنا ، أو رؤية سحليةٍ ( الضب ) وهي تثرثر برأسها دون توقفٍ أو حرباءَ حدباءُ الظهرِ ملتصقةً بأحد الأغصان تتلّون كيفما تريد وكيفما تشاء كأنّها معمل صباغٍ للقماش
وعلى ذكر قصص الأفاعي يقال بأنّه كانت هناك أفعى ضخمة سوداء اللون تتنّقل بين بستان ال خاتونة ودلّي حسين والتي عجز الكثيرونَ من هول شكلها وضخامة حجمها عن اصطيادها وكان من بينهم المرحوم يوسف صبري دينكلي والذي حاول اصطيادها يوماً إلاّ أنّه فشل في ذلك أيضاً .
إضافةً إلى هذه المواقف والقصص هناك صورٌ وذكرياتٌ أخرى تختزنها جعبة ذكريات بعض الشباب والاوقات السعيدة التي كانوا يمضونها تحت شجرة التوت الكبيرة في بستان السّيد أحمد مدينة حفظه الله وهم يلعبون لعبة ( serdarê ) ، وفي عين الوقت نتحسّر اليوم خجلاً وندماً ونحن نشعر كم كنّا مراهقين وجهلة عندما كنّا نصطاد بالنّشاب اليدوي تلك العصافير الجميلة مع هجماتٍ مسائية على اعشاشها وكأنّنا نخوض حرب ضروسٍ مع وحوشٍ وحيواناتٍ مفترسة لا حيواناتٍ اليفة جلّ ذنبها أنّها كائناتٌ جميلةٌ تعزفُ زقزقةً الحاناً شجيّة تنعشُ الروح .
لقد كان في فترة القطاف تشاد في معظم هذه البساتين إن لم تكن كلّها عرائش موسمية ذات أعمدةٍ خشبية وسقفٍ نباتيٍّ مصنوع من أغصانٍ ووريقاتِ الأشجارِ والحشائشِ والتي كانت بمثابة دكاكين بيعٍ طبيعية فلكّل بستانٍ دكانٌ وبضاعةٌ خاصةٌ بها ، هذه العرائش التي كانت تُفرشُ جنباتها بالورود والرياحين ونبتة الخبّيزة الزهريّة والسجّادة * ملك* والعطريّة * عتري* وفم السمكة وغيرها من نباتات الزّينة التي كانت تُضافُ البعض من فروعها أثناء البيع على كفّة الميزان تعبيراً عن الودِّ والاحترام للزبائنِ والمشترينْ ، وما أجمل تلك اللحظات وروائح التربة الذكيّة بعد رشّها بمياه الساقية مع قطرات الرذاذ اللؤلؤية على تلك الورود والنباتات .
أمّا الميزان فكان عبارة عن ذراعٍ خشبيٍ في وسطه حاملُ الميزان وعلى كلا طرفيه تتدّلى خيطانٌ وحبالٌ متينة تنتهي بكفّينِ على شكل وعاءٍ كبيرٍ مصنوعينِ من الكاوتشوك الطبيعيّ ، وكانت الأوزانُ عبارةٌ عن كتلٍ حديديةٍ بوزن 1كغ أو أكثر وكذلك ما يساويها من قطعٍ حجريةٍ وبعدها ظهرت نمازجُ أوزانٍ أخرى .
كان أغلب أصحاب البساتين يتبادلون منتوجاتهم فيما بينهم وذلك كلٍّ حسبَ حاجته وحسبَ محصوله ، وتوزّعُ البعض منها أحياناً على المعارفِ والأصدقاءِ والأقارب دون مقابل .
علاوةً على هذا البيع المحليّ كانت تزوّد معظم دكاكين ساحة النّبعة والحاراتِ الأخرى ومنذ الصباح الباكر بهذه المنتوجات ، أمّا الفائضُ منها فكانت توزّع عبر الجوّالين إلى بقية القرى ونواحي منطقة عفرين وذلك بواسطة الدواب ، ثم جاءت وسائل النقل البدائية والحديثة والتي أدّت بدورها إلى وصول تلك المنتوجات والخيرات إلى أسواق عفرين وحلب وغيرها من أماكن أخرى .
#الري : كانت مياه البئر الرومانّي المصدر الرئيسّي لريّ هذه البساتين والتي كانت تتم بطريقةٍ هندسيةٍ لا مثيل لها وذلك عبر اقنيةٍ وسواقيَ رئيسيةَ تتفرّع عنها سواقي مياهٍ مكشوفة تخترق مساحات هذه البساتين من أعلى رقعة ( بغية سلاسة سيلان المياه ) لتكملَ دورانها على كامل محيطها وهي تسقي في طريقها ذلك الصفّ من الأشجار والنباتات ، وكان لبعض هذه البساتين عند نقطة الاختراق أشجارٌ كبيرةٌ يستفاد إمّا من ظلّها أو ثمارها معاً .
( كما هو موضّح في المخطط الكروكي المرفق )
وبغية سقي كامل مساحة البستان كان يتفرّع عن هذه الساقية عدة سواقي والتي كانت تشكّل برسم هندستها مع مشاتل الزرع لوحة فنية نادرة ، هذه السواقي التي كان يتم من خلالها إضافةً إلى الري تسميد البستان ايضاً وذلك بمزج الزّبل الطبيعي المحفوظ كمية منه في احد أطراف البستان مع مياه السواقي .
كما كان يستفاد من الساقية الرئيسية أيضاً عندما كان يراد التخلّص من الماء الفائض وخاصةً في بعض الأحيان كان يصعب التحكم به
كان نظام الريِّ هذا يعتمد على مساحة البستان فلكلِّ / 1/ دونم اي
( 1000م2) ساعةً واحدةً تقريباً ، ووفق هذا النظام كان حصّة كل بستانٍ من الريّ مرّةً واحدةً في الأسبوع ، وهذا كان يعتمد على كمّية وغزارةِ المياه والتي كانت تصبح في بعض سنوات الخير ثلاث مراتٍ في الأسبوع .
إلاّ أنّ مدّةُ الريّ هذهِ كانت قابلةٌ للمدّ والجزْرِ أحياناً لأنّ جريان المياه في السواقي الرئيسية كانت تستغرق نصف ساعةٍ تقريباً وفي السواقي الفرعية عند الانتقال من بستانٍ لآخر كانت تستغرق من
( 5-10 ) دقائق ، كذلك عندما كان الجار أحياناً لم يستطع الانتهاء من الريّ في المدّة المحدّدة له فكان يطلب من جاره الذي يليه الانتظار بعض الوقت وكان يسمّى هذ الطلب ( sazintiyê )
بما أنّ الريّ كان يجري بشكلٍ متواصل ودون انقطاعْ فكانت حصص الريّ من حيث التوقيت تختلف من أسبوعٍ لآخر ، وكان تسليم واستلام هذه الحصص تتم احياناً في أوقاتٍ متأخّرة من الليل لكن العرف أثناء تسليم وردية الريّ وخشيةً من الإخافة كان لزاماً على الجار أن يصدر صوت مناداةٍ قبل وصوله إلى جاره الآخر .
كما كان عرفاً تقليدياً أن يقوم أصحاب هذه البساتين بتعزيل هذه السواقي من الأغصان والفروع والنباتات والحشائش وغيرها مرّةً كل سنة ، وكان المرحوم دينكل هو من يتولّى أمور الإشراف على هذه السواقي وكذلك تنظيم أوقات الريّ وغيرها .
أمّا في فصل الشتاء حيث لا حاجة لهذه البساتين للريّ فكانت مياه النبعة تتّجه عبر هذه السواقي لتصبَّ في وادٍ صغيرٍ أسفل البساتين يقع على جانب طريق şêrşep) ، شير شب ) ثم يغيِّر مسارهُ باتجاه طريق ( golêكوله ) ومنه إلى ذاك السهل الفسيح
و ( lêçe , لجه ) .
وفي النّهاية نقول: ليت تلك الأيام تعود يوماً .



إرسال تعليق