ساحة النبعة في شيه
ساحة النبعة في شية:
تعتبر هذه الساحة بكافة محتوياتها ومرافقها الحيوية بمثابة الهوية التاريخية والقلب النابض لهذه البلدة الجميلة فهي كانت وما زالت من الناحية التجارية والخدمية وغيرها العصب الحيوي والشريان الرئيسي لأهالي هذه البلدة وما يحيطها ، إضافة إلى كونها عقدة المواصلات الرئيسية للبلدة والمناطق المجاورة.
كما أنها تعتبر للكثيرين بمثابة الرئة وأهم مقصد للترفيه ومتنفس للتسلية وقضاء الوقت.
تقع هذه الساحة في وسط الحارة التحتانية والتي تفصلها من طرف الغرب عن البساتين والسهل ، وهي مستطيلة الشكل بأبعاد تقريبية طول ١٠٠م ومتوسط عرض ٢٥م ومحاطة بعدة مبان ومحال متعددة الاغراض والوظائف والتي يقدر عددها بحدود المائة.
هناك عناصر بناء أخرى في هذه الساحة لا تقل اهمية عن غيرها أعطت لهذه الساحة طابعا تراثيا وحضاريا مميزا ونورد هنا البعض منها
النبعة :
تعتبر هذه النبعة التؤام الروح لهذه البلدة إن لم تكن الأساس لوجودها لأن معظم التجمعات السكنية كانت تقام قديما بالقرب من مصادر المياه ، لذلك قبل ظهور الجبب والآبار كانت تعتبر هذه النبعة أهم مصدر مياه للأهالي وكانت نساء المناطق القريبة يجلبن الماء بأواني يضعونها على الرأس ، كما أن بعض الفتيات والصبايا كانا أثناء جلب المياه يبالغن في إيقاعات حركاتهن وذلك إما قصدا أو خجلا مما كانا يلفتن احيانا انتباه الشباب وهذا ما كان يصل احيانا الى حد الارتباط والزواج .
أما المناطق البعيدة فكانت تعتمد على الدواب والحيوانات وفي بعض الأحيان كان هناك المرحوم أحمد كيكاج ( مستشار) يزود الكثيرين بالماء مقابل اجر عيني بسيط ، ثم جاءت الآلات والجرارات التي تجر وراءها الصهاريج المتحركة إضافة الى ظهور الجبب والآبار الارتوازية إلى أن تم تزويد البلدة بشبكة مياه من قبل الدولة.
علاوة على ذلك كانت هذه النبعة مصدر ماء لبعض القرى المجاورة أيضا وكذلك مكانا للوضوء والغسيل والسقي ولعب الأطفال وغيرها .
• أما النبعة بحد ذاتها هي عبارة عن جدار حجري بأبعاد تقريبية طول ٦م وارتفاع ٢م من طرف الغرب و١م من طرف الشرق ( نظرا لوجود اختلاف في المناسيب) ، يعتقد بأنه قد شيد في العهد العثماني وذلك لوجود حجر في منتصف هذا الجدار مدون عليه كتابة باللغة التركية والاحرف العربية يقال بأنها تعني ( كل من يشرب من مياه هذا النبع لا تلدغه العقارب) وقد يكون الأساس رومانيا والترميم عثمانيا.
يخرج من أسفل هذا الجدار خمسة مصارف مياه يتدفق منها مياه البئر الروماني والتي تختلف غزارتها من فترة لأخرى إلى أن تصل أحيانا إلى حد الانقطاع ثم تصب جميعها في حوض مستطيل يقع ضمن مصطبة مسطحة أقل انخفاضا وهي مستطيلة الشكل بأبعاد تقريبية ( ٦×٢،٥م ) محاطة بجدران تتخللها سبعة أدراج في كل من طرفي الشمال والجنوب وذلك لإمكانية الوصول إلى أرضية هذه المصطبة ، ثم تجري المياه عبر خندق صغير محفور في أرضية هذه المصطبة من طرف الجنوب لتصل بقناة حجرية مغطاة تجري المياه عبرها إلى أن تصل إلى البساتين الزراعية.
إلا أن هذه النبعة من حيث شكل البناء لم تكن سابقا بهذا الشكل وكذلك خط سير المياه التي كانت تصل أولا إلى دورات المياه العامة ثم تتابع سيرها باتجاه البساتين ، ولكن للأسف أجريت هذه التعديلات بصورة مشوهة وغير مدروسة بعد إحداث الوحدة الإدارية للبلدة.
دورات المياه العامة:
إن وجود هكذا دورات في هكذا ساحة وفي حقبة زمنية قديمة ما هو إلا مؤشر على الأهمية الاجتماعية والاقتصادية تاريخيا لهذه المنطقة بقدر ما هو مؤشر أيضا على تطور ومدنية هذه البلدة لأن هذا الشيء كان يعتبر استثناءا لباقي مناطق عفرين .
أما كتلة البناء الحالية والمخصصة للرجال والنساء فتم بناؤها من قبل البلدية وذلك على انقاض بناء قديم
( يقال بأنه بني في عهد المرحوم خوجة حسين) كان مؤلفا من خمسة حجرات مخصصة لقضاء الحاجة إلا أن الأولى من طرف الشمال كانت مخصصة للاستحمام أيضا وكانت هي فقط مغطاة جزئيا بقطعة حجر كبيرة أما البقية بدون سقف وكانت أبواب جميعها باتجاه الغرب ، وجميع هذه الحجرات كانت تزود بالماء من فرع قناة النبعة والذي يجري عبر خندق مائي محفور في منتصف أرضية هذه الحجرات
ومن أجل الاغتسال والاستحمام كانت تزود هذه الحجرات بخط ماء فرعي صغير قادم من فرع القناة الشمالية الواصل إلى الأحواض والذي يصب في جرن صغير محفور في أرضية الحجرة من طرف الشرق ومنه عبر مجرى ماء صغير الى جرن الحجرة الأخرى وهكذا الى أن تلتقي مياه جميع الفروع والاقنية بعد الأحواض مشكلة خطا واحدا يتابع سيره باتجاه البساتين ، ويقال بأنه قبل هذه الدورات القديمة كان يوجد مكان آخر بعدها بقليل من طرف الجنوب كانت مخصصة لقضاء الحاجة.
الأحواض:
كانا عبارة عن حوضين يقعان خلف هذه الدورات من طرف الساحة ، يعتبر الأول هو الأقدم وللأسف لم نتمكن من معرفة تاريخ بناءه ويقال بأنه روماني أيضا وكان مستطيل الشكل بأبعاد تقريبية
( ٦×٢م وعمق ١م ) وكان مخصصا لسقي الدواب والحيوانات وكذلك الوضوء وغسل الثياب والصوف وغيرها كما أن لهذا الحوض مكانة في ذاكرة الكثيرين من الشباب الذين عاصروا تلك المرحلة لأنهم قضوا فيه اوقاتا ممتعة من اللهو واللعب والسباحة ، وكان يوجد بجانب هذا الحوض قطعتين حجريتين بازلتيتين عليهما رسوم وكتابات رومانية تم اخذهما من قبل مديرية الأثار والمتاحف بحلب لعرضهما في متحف حلب الحالي .
أما الحوض الثاني كان مربعا (٢×٢م ) ملاصقا للأول وامتدادا له من طرف الجنوب إلا أنه كان أقل انخفاضا ، وتم بناؤه في مرحلة الستينيات من القرن الماضي ( من قبل المرحوم بشير كوشكار) وذلك لأن الأعمال التي كانت تقام على الحوض الأول كانت تؤثر على سقي الحيوانات لذلك تم تخصيص كل حوض لوظيفة معينة
• كما كان هناك في الساحة أمام بستان المرحوم خليل مالو خمسة أحواض حجرية صغيرة لسقي الماشية كانت واحدة منها مستطيلة الشكل من حجر النحيت والبقية على شكل جرن من حجر البازلت الأسود باستثناء واحدة كان جرنها نصف دائري .
• أما ضلع البستان المذكور المطل على الساحة بدءا من النبعة باتجاه الشمال كان عبارة عن مجموعة أحجار بازلتية موضوعة على شكل كوم يخيم عليها ظل صف من الأشجار المتنوعة كالصفصاف والحور والتين والزيزفون.... يقضي الناس جل أوقاتهم جالسين على هذه الحجارة ، وكلما لامست نسائم الرياح الغربية ووادي جرجم أوراق أغصان هذه الأشجار كانت تعزف لحنا شجيا يشعر الجالسين كأنهم مستلقين في سرير سلطان سليمان .
• كما يقال بأنه كان يوجد سابقا في مكان المحل الحالي للسيد ( سيدو شيخ) مصطبة حجرية كانت مخصصة قديما لاستقبال الضيوف وعابري السبيل ومن تقطعت بهم السبل ومن كرم أهالي هذه البلدة كان يقوم احد ما بتأمين احتياجات هذا الضيف والقيام بما يلزم ، ومع مرور الزمن اصبحت هذه المصطبة تستخدم من قبل الجميع .
• ويقال ايضا بأنه كان هناك مصطبة أخرى كانت تبدأ من طرف زقاق آل خاتونة وتنتهي قوسيا عند زاوية دكان السيد محمد فريكة علما بأن هذه الدكاكين لم تكن موجودة ، وكان بينها وبين سياج الجامع مسافة عبور مناسبة للوصول الى الشارع الحالي أمام منزل المرحوم حج سليمان ، وأمام هذه المصطبة كانت تجري مياه فرع القناة الجنوبية للنبعة وعلى مساحة واسعة لتصب بعد ذلك بالفرع الواصل إلى البساتين والذي كان يتفرع منه فرع آخر يذهب باتجاه الغرب لتصب مياهه في قطعة أرض لآل بكر آغا تقع خلف المطحنة القديمة كانت مفروشة بأشجار الحور لتشكل مستنقعا مائيا جميلا كانت تسبح فيه البط والإوز والتي كان يملك معظمها المرحومة (حج مدينة) .
ومن خلال هذا الوصف والسرد وما هو حال هذه النبعة اليوم يتبين بأن جهل البعض والجهات المسؤولة قد أساءت لجمال ورونق هذه الساحة أكثر مما نفعت .
وفي النهاية كلنا امل في أن يكون جيل المستقبل أكثر حرصا ونفعا لهذه البلدة المعطاءة.
الجامع:
يعود تاريخ بناء هذا الجامع الواقع جنوبي الساحة إلى عام ١٣١٥ للهجرة والموافق عام ١٨٩٧ للميلاد وذلك بدعم كل من آل دوشير وآل شيخ بريم ( هذا ما يدعيه البعض وفقا لوجود كتابة تركية بأحرف عربية مدوّنة على حجر في الجدارالأمامي للجامع ) وكذلك بهمة الكثيرين من أبناء البلدة وخاصة البنّائين والشباب الذين تطوعوا لهذا العمل بعد أن تم جلب أحجار بناء لجامع أقدم هدم بفعل زلزال ضرب المنطقة كان يقع في مكان مباني وكازية آل كوجر الحالية .
والجامع عبارة عن بناء حجري مستطيل الشكل بأبعاد خارجية (١٩×٧م ) تقريبا والسقف على شكل أقواس وقبب حجرية ، ثم أضيف إليه بين عامي ( ١٩٤٠ _١٩٤٥م ) من طرف الشمال رواق أمامي سقفه من البيتون المسلح مع صف من الاعمدة الحجرية البازلتية واقواس حجرية وذلك بعرض /٦م/ وبتمويل من قبل لجنة شعبية قامت بجمع تبرعات خيرية من أهالي البلدة ومنطقة عفرين عموما وكان ذلك في عهد وإشراف المرحوم خوجة حسين .
وفي صيف عام ١٩٦٢م تمت المباشرة ببناء المأذنة والتي استغرقت عاما تقريبا فكان الانتهاء منها عام ١٩٦٣م وذلك من قبل الفني المختص ببناء المآذن آنذاك المرحوم مصطفى يوسف خلو من قرية سنارة والذي وافته المنية بعد سقوطه من مأذنة جامع قرية ارندة اثناء اعمال البناء ، إلا أن الجزء العلوي من المأذنة بدءا من الصحن البيتوني تم بناؤه من قبل المرحوم مصطفى حسين داغلي وكان أغلب العمال من قريتي سنارة وانقلة ، ومن بلدتنا شية كان كل من السيدين ( مصطفى شيخ عمر بن يوسف ، سيدو شيخ أحمد بن شيخ أمين ) ، وللأسف بتاريخ /٧/٣/٢٠٢٠ مساءا تم هدم هذه المأذنة من قبل الاحتلال التركي وأعوانه والتي كانت تعتبر حتى هذا التاريخ بمثابة رمز وشعار تقليدي لهذه االساحة .
أما قسم النساء فكان جزءا من مدرسة قديمة ألحق فيما بعد ببناء الجامع وكان هناك سابقا موضأ في صحن الجامع من طرف الغرب (كان يغذّى بخط خاص من مياه النبعة ) شيّد مكانه فيما بعد محلات تجارية.
كما أن الباب الرئيسي الحالي الذي تم اشادته لاحقا في الثمانينات من القرن الماضي لم يكن موجودا إنما المدخل كان من طرف الشرق لصحن الجامع ، وهذه الملحقات التي ذكرت وغيرها كالمظلة المعدنية والدورات المحدثة أضيفت في عهد الإمام الحالي ( السيد حج مصطفى ) حفظه الله والذي يعتبر رابع إمام ومؤذن لهذا الجامع بعد كل من السادة ( خوجة أوسي سعدو ، خوجة حسين ، حج بلو ) رحمهم الله حيث بلغ مدة خدمته ٥٧ عاما بدءا من عام ١٩٦٣م وبهذا يكون هو أقدم إمام في منطقة عفرين متمنين له ولصوته العذب الاستمرارية ودوام الصحة والعافية .
وقبل هؤلاء السادة كان هناك إمام يدعى حج مفتي رحمه الله كان يسكن في منزل المرحوم سليمان بلكندرة ، للأسف لم نعرف عنه الكثير سوى أنه جاء مع أخيه من منطقة كلس وعنتاب وقد أخذ هذا اللقب لأنه أصبح في فترة ما مفتي عفرين وبعدها رحل إلى مدينة دمشق وهناك انقطعت اخباره ، علما بأن هذه الحدود المصطنعة لم تكن موجودة سابقا وإن وجدت فكانت شكلية .
في الحقيقة لم يكن هذا الجامع دور عبادة لأهالي بلدة شية فقط بل كان مقصدا دينيا لجميع أهالي القرى المجاورة وخاصة يومي الجمعة فكان الكثيرون يتوافدون إليه ارتالا وجماعات ، وهناك مواقف كوميدية لبعض هذه الجماعات مع المرحوم علي عكيل (فيلسوف وعلماني عصره) والذي مثلا ذات يوم أطال في الحديث معهم قصدا أثناء لقائه معهم صدفة على طريق جقللي ، هؤلاء البسطاء الذين لم يشعروا وهم يستمعون بلهف وشغف إلى أحاديثه المشّوقة إلا وإذ فاتهم توقيت الصلاة .
كما كان رواق هذا الجامع وصحنه في فترة القيلولة خير مكان تجمع للذين كانوا يرتادونه ، وخاصة صحنه الذي كان يستظل بظل شجرة زيتون مباركة الى جانب جب عربي مع ارضية ترابية مكسية بقميص عشبي اخضر .
كذلك نريد أن ننوه هنا من باب التذكير بأنه في عام ١٩٨٦م تمت المباشرة ببناء جامع آخر( وإن لم يكن من أحد عناصر الساحة ) بجانب المقابر الفوقانية من طرف الشرق والذي استغرق بناؤه عاما تقريبا وذلك بتمويل شعبي من قبل أهالي البلدة ومنطقة عفرين عموما وذلك على يد بنّاء البلدة حفظه الله السيد
(سيدو محمد حنان " بعبه" ) وبمساعدة حسين علي سيدو وغيره.
أما الإمام فكان من بداية التأسيس وحتى فترة الاحتلال هو المرحوم ( محمد سليمان رمضان " خوجة رامه " ) .
وختاما تقول سيرورة التاريخ بأن روح الصمود وغريزة الانتماء ستبقى أقوى من سقوط ألف مأذنة.
بقلم الأستاذ : حسين بلال

إرسال تعليق